فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإذا ثبت هذا فنقول: كيف الأمان من أن يحدث في الفلك شكل غريب يقتضي حدوث إنسان دفعة واحدة لا عن الأبوين وانتقال مادة الجبل من الصورة الجبلية إلى الصورة الذهبية أو للصورة الحيوانية؟ وحينئذ تعود جميع الإلزامات المذكورة.
وأما على التقدير الثاني وهو أن يكون مؤثر العالم ومرجحه فاعلًا مختارًا، فلا شك أن جميع الأشياء المذكورة محتملة لأنه لا يمتنع أن يقال إن ذلك الفاعل المختار يخلق بإرادته إنسانًا دفعة واحدة لا عن الأبوين وانتقال مادة الجبل ذهبًا والبحر دمًا، فثبت أن الأشياء التي ألزموها علينا واردة على جميع التقديرات وعلى جميع الفرق وأنه لا دافع لها ألبتة.
والقول الثالث: وهو قول المعتزلة فإنهم يجوزون انخراق العادات وانقلابها عن مجاريها في بعض الصور دون بعض، فأكثر شيوخهم يجوزون حدوث الإنسان دفعة واحدة لا عن الأبوين، ويجوزون انقلاب الماء نارًا وبالعكس، ويجوزون حدوث الزرع لا عن سابقة بذر.
ثم قالوا إنه لا يجوز أن يكون الجوهر الفرد موصوفًا بالعلم والقدرة والحياة، بل صحة هذه الأشياء مشروطة بحصول بنية مخصوصة ومزاج مخصوص، وزعموا أن عند كون الحاسة سليمة وكون المرئي حاضرًا وعدم القرب القريب والبعد البعيد يجب حصول الإدراك وعند فقدان أحد هذه الشروط يمتنع حصول الإدراك، وبالجملة فالمعتزلة في بعض الصور لا يعتبرون مجاري العادات ويزعمون أن انقلابها ممكن وانخراقها جائز، وفي سائر الصور يزعمون أنها واجبة ويمتنع زوالها وانقلابها، وليس لهم بين الناس قانون مضبوط ولا ضابط معلوم، فلا جرم كان قولهم أدخل الأقاويل في الفساد.
إذا عرفت هذه التفاصيل فنقول: ذوات الأجسام متماثلة في تمام الماهية وكل ما صح على الشيء صح على مثله، فوجب أن يصح على كل جسم ما صح على غيره، فإذا صح على بعض الأجسام صفة من الصفات وجب أن يصح على كلها مثل تلك الصفة، وإذا كان كذلك كان جسم العصا قابلًا للصفات التي باعتبارها تصير ثعبانًا، وإذا كان كذلك كان انقلاب العصا ثعبانًا أمرًا ممكنًا لذاته، وثبت أنه تعالى قادر على جميع الممكنات، فلزم القطع بكونه تعالى قادرًا على قلب العصا ثعبانًا، وذلك هو المطلوب، وهذا الدليل موقوف على إثبات مقدمات ثلاث: إثبات أن الأجسام متماثلة في تمام الذات، وإثبات أن حكم الشيء حكم مثله، وإثبات أنه تعالى قادر على كل الممكنات ومتى قامت الدلالة على صحة هذه المقدمات الثلاثة فقد حصل المطلوب التام والله أعلم.
قوله: {فَإِذَا هِىَ} أي العصا وهي مؤنثة، والثعبان الحية الضخمة الذكر في قول جميع أهل اللغة.
فأما مقدارها فغير مذكور في القرآن، ونقل عن المفسرين في صفتها أشياء، فعن ابن عباس: إنها ملأت ثمانين ذراعًا ثم شدت على فرعون لتبتلعه فوثب فرعون عن سريره هاربًا وأحدث، وانهزم الناس ومات منهم خمسة وعشرون ألفًا.
وقيل: كان بين لحييها أربعون ذراعًا ووضع لحيها الأسفل على الأرض، والأعلى على سور القصر، وصاح فرعون يا موسى خذها فأنا أومن بك، فلما أخذها موسى عادت عصا كما كانت، وفي وصف ذلك الثعبان بكونه مبينًا وجوه: الأول: تمييز ذلك عما جاءت به السحرة من التمويه الذي يلتبس على من لا يعرف سببه، وبذلك تتميز معجزات الأنبياء من الحيل والتمويهات.
والثاني: في المراد أنهم شاهدوا كونه حية لم يشتبه الأمر عليهم فيه.
الثالث: المراد أن ذلك الثعبان أبان قول موسى عليه السلام عن قول المدعي الكاذب.
وأما قوله: {وَنَزَعَ يَدَهُ} فالنزع في اللغة عبارة عن إخراج الشيء عن مكانه فقوله: {وَنَزَعَ يَدَهُ} أي أخرجها من جيبه أو من جناحه، بدليل قوله تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ في جَيْبِكَ} وقوله: {واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ} وقوله: {فَإِذَا هي بَيْضَاء للناظرين} قال ابن عباس: وكان لها نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض.
واعلم أنه لما كان البياض كالعيب بين الله تعالى في غير هذه الآية أنه كان من غير سوء.
فإن قيل: بم يتعلق قوله: {للناظرين}.
قلنا: يتعلق بقوله: {بَيْضَاء} والمعنى: فإذا هي بيضاء للنظارة، ولا تكون بيضاء للنظارة إلا إذا كان بياضها بياضًا عجيبًا خارجًا عن العادة يجتمع الناس للنظر إليه كما تجتمع النظارة للعجائب.
وبقي هاهنا مباحث: فأولها: أن انقلاب العصا ثعبانًا، من كم وجه يدل على المعجز؟ والثاني: أن هذا المعجز كان أعظم أم اليد البيضاء؟ وقد استقصينا الكلام في هذين المطلوبين في سورة طه.
والثالث: أن المعجز الواحد كان كافيًا، فالجمع بينهما كان عبثًا.
وجوابه: أن كثرة الدلائل توجب القوة في اليقين وزوال الشك، ومن الملحدين من قال: المراد بالثعبان وباليد البيضاء شيء واحد، وهو أن حجة موسى عليه السلام كانت قوية ظاهرة قاهرة، فتلك الحجة من حيث إنها أبطلت أقوال المخالفين، وأظهرت فسادها، كانت كالثعبان العظيم الذي يتلقف حجج المبطلين، ومن حيث كانت ظاهرة في نفسها، وصفت باليد البيضاء، كما يقال في العرف: لفلان يد بيضاء في العلم الفلاني.
أي قوة كاملة، ومرتبة ظاهرة.
واعلم أن حمل هذين المعجزين على هذا الوجه يجري مجرى دفع التواتر وتكذيب الله ورسوله.
ولما بينا أن انقلاب العصا حية أمر ممكن في نفسه، فأي حامل يحملنا على المصير إلى هذا التأويل؟. اهـ.

.قال السمرقندي:

{فَأُلْقِىَ} موسى {عصاه} يعني: ألقى موسى عصاه من يده {فَإِذَا هي ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} وهي أعظم الحيات، ويقال الثعبان الحية الذكر الصفراء الشقراء ويقال صارت حية من أعظم الحيات رأسها مع شرف قصر فرعون، ففتحت فاها نحو فرعون، وكان فرعون على سريره فوثب فرعون عن سريره، وهرب منها، وهرب الناس، وصاحوا إلى موسى، ونادى فرعون يا موسى خذها عني فأخذها، فإذا هي عصا بيضاء بيده كما كانت، وجعل الناس يضحكون مما يصنع موسى.
ومعنى قوله: {ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} يعني: أنها حية تسعى لا لبس فيها.
فقال له فرعون: هل معك غير هذا؟ فقال: نعم {وَنَزَعَ يَدَهُ} يعني: أخرج يده أخرجها من جيبه كما قال في آية أخرى {وَأَدْخِلْ يَدَكَ في جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سواء في تِسْعِ ءايات إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا فاسقين} [النمل: 12] يعني: من غير برص {فَإِذَا هي بَيْضَاء للناظرين} يعني: لها شعاع غلب على نور الشمس.
ومعنى قوله: {للناظرين} يعني: يتعجب ويتحير منها الناظرون.
ويقال: إن البياض من غير برص.
لأن الناس يكرهون النظر إلى الأبرص، فأخبر أن ذلك بياض ينظرون إليه من غير سوء.
ثم أدخل يده في جيبه وأخرجها فصارت كما كانت. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {فألقى عصاه} الآية، روي أن موسى عليه السلام قلق به وبمحاورته فرعون فقال لأعوانه خذوه فألقى موسى العصا فصارت ثعبانًا وهمت بفرعون فهرب منها، وقال السدي: إنه أحدث وقال يا موسى كفه عني فكفه، وقال نحوه سعيد بن جبير.
و{إذا} ظرف مكان في هذا الموضع عند المبرد من حيث كانت خبرًا عن جثة، والصحيح الذي عليه الناس أنها ظرف زمان في كل موضع، ويقال: إن الثعبان وضع أسفل لحييه في الأرض وأعلاها في شرفات القصر، والثعبان الحية الذكر، وهو أهول وأجرأ، قاله الضحاك، وقال قتادة صارت حية أشعر ذكرًا، وقال ابن عباس: غرزت ذنبها في الأرض ورفعت صدرها إلى فرعون، وقوله: {مبين} معناه لا تخييل فيه بل هو بين أنه حقيقة، وهو من أبان بمعنى بان أو من بان بمعنى سلب عن أجزائه، وقوله: {ونزع يده}، معناه من جيبه أو كمه حسب الخلاف في ذلك، وقوله: {فإذا هي بيضاء} قال مجاهد كاللبن أو أشد بياضًا، وروي أنها كانت تظهر منيرة شفافة كالشمس تأتلق، وكان موسى عليه السلام ذا دم أحمر إلى السواد، ثم كان يرد يده فترجع إلى لون بدنه.
قال القاضي أبو محمد: وهاتان الآيتان عرضهما موسى عليه السلام للمعارضة ودعا إلى الله بهما، وخرق العادة بهما وتحدى الناس إلى الدين بهما، فإذا جعلنا التحدي الدعاء إلى الدين مطلقًا فبهما تحدى، وإذا جعلنا التحدي الدعاء بعد العجز عن معارضة المعجرة وظهور ذلك فتنفرد حينئذ العصا بذلك لأن المعارضة والعجز فيها وقعا.
قال القاضي أبو محمد: ويقال التحدي هو الدعاء إلى الإتيان بمثل المعجزة، فهذا نحو ثالث وعليه يكون تحدي موسى بالآيتين جميعًا لأن الظاهر من أمره أنه عرضهما للنظر معًا وإن كان لم ينص على الدعاء إلى الإتيان بمثلها، وروي عن فرقد السبخي أن فم الحية كان ينفتح أربعين ذراعًا. اهـ.

.قال أبو حيان:

{فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين}.
بدأ بالعصا دون سائر المعجزات لأنها معجزة تحتوي على معجزات كثيرة قالوا منها أنه ضرب بها باب فرعون ففزع من قرعها فشاب رأسه فخضب بالسواد فهو أول من خضب بالسواد وانقلابها ثعبانًا وانقلاب خشبة لحمًا ودمًا قائمًا به الحياة من أعظم الإعجاز ويحصل من انقلابها ثعبانًا من التهويل ما لا يحصل في غيره وضربه بها الحجر فينفجر عيونًا وضربه بها فتنبت قاله ابن عباس ومحاربته بها اللصوص والسباع القاصدة غنمه واشتعالها في الليل كاشتعال الشمعة وصيرورتها كالرشا لينزح بها الماء من البئر العميقة وتلقفها الحبال والعصيّ التي للسحرة وإبطالها لما صنعوه من كيدهم وسحرهم والإلقاء حقيقة هو في الاجرام ومجاز في المعاني نحو ألقى المسألة.
قال ابن عباس والسدّي: صارت العصا حية عظيمة شعراء فاغرة فاها ما بين لحييها ثمانون ذراعًا، وقيل: أربعون ذكره مكي عن فرقد واضعة أحد لحييها بالأرض والآخر على سور القصر وذكروا من اضطراب فرعون وفزعه وهربه ووعده موسى بالإيمان إن عادت إلى حالها وكثرة من مات من قوم فرعون فزعًا أشياء لم تتعرّض إليها الآية ولا تثبت في حديث صحيح فالله أعلم بها ومعنى {مبين} ظاهر لا تخييل فيه بل هو ثعبان حقيقة، قال ابن عطية {وإذا} ظرف مكان في هذا الموضع عند المبرّد من حيث كانت خبرًا عن جثة والصحيح الذي عليه شيوخنا أنها ظرف مكان كما قاله المبرد وهو المنسوب إلى سيبويه وقوله من حيث كانت خبرًا عن جثة ليست في هذا المكان خبرًا عن جثة بل خبر هي قوله: {ثعبان} ولو قلت {فإذا هي} لم يكن كلامًا وينبغي أن يحمل كلامه من حيث كانت خبرًا عن جثة على مثل خرجت فإذا السبع على تأويل من جعلها ظرف مكان وما ذكره من أن الصحيح الذي عليه الناس أنها ظرف زمان هو مذهب الرّياشي ونسب أيضًا إلى سيبويه ومذهب الكوفيين أن إذا الفجائية حرف لا اسم.
{ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين} أي جذب {يده} قيل من جيبه وهو الظاهر لقوله: {وأدخل يدك في جيبك تخرج}، وقيل من كمّه و{للناظرين} أي للنظار وفي ذكر ذلك تنبيه على عظم بياضها لأنه لا يعرض لها للنظار إلا إذا كان بياضها عجيبًا خارجًا عن العادة يجتمع الناس إليه كما يجتمع النظّار للعجائب، قال مجاهد: {بيضاء} كاللبن أو أشدّ بياضًا، وروي أنها كانت تظهر منيرة شفافة كالشمس ثم يردّها فترجع إلى لون موسى وكان آدم عليه السلام شديد الأدمة، وقال ابن عباس صارت نورًا ساطعًا يضيء له ما بين السماء والأرض له لمعان مثل لمعان البرق فخرّوا على وجوههم، وقال الكلبي: بلغنا أن موسى عليه السلام قال يا فرعون ما هذه بيدي قال: هي عصا فألقاها موسى فإذا هي ثعبان، وروي أن فرعون رأى يد موسى فقال لفرعون ما هذه فقال: يدك ثم أدخلها جيبه وعليه مدرعة صوف ونزعها فإذا هي بيضاء بياضًا نورانيًا غلب شعاعها شعاع الشمس وما أعجب أمر هذين الخارقين أحدهما في نفسه وذلك اليد البيضاء، والأخر في غير نفسه وهي العصا وجمع بذينك تبدّل الذرات وتبدل الاعراض فكانا دالين على جواز الأمرين وإنهما كلاهما ممكن الوقوع، قال أبو محمد بن عطية: هاتان الآيتان عرضهما موسى عليه السلام للمعارضة ودعا إلى الله بهما وخرق العادة بهما وتحدّى الناس إلى الدين بهما فإذا جعلنا التحدّي الدّعاء إلى الدين مطلقًا فبهما تحدى وإذا جعلنا التحدّي الدعاء بعد العجز عن معارضة المعجزة وظهور ذلك فتنفرد حينئذ العصا بذلك لأنّ المعارضة والمعجز فيها وقعا ويقال: التحدّي هو الدعاء ألى الإتيان بمثل المعجزة فهذه نحو ثالث وعليه يكون تحدّي موسى بالآيتين جميعًا لأنّ الظاهر من أمره أنه عرضهما معًا وإن كان لم ينص على الدعاء إلى الإتيان بمثلهما انتهى، وهو كلام فيه تثبيج. اهـ.

.قال أبو السعود:

{فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هي ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} أي ظاهرٌ أمرُه لا يُشك في كونه ثعبانًا وهو الحيةُ العظيمةُ، وإيثارُ الجملةِ الاسميةِ للدِلالة على كمال سرعةِ الانقلاب وثباتِ وصفِ الثُعبانية فيها كأنها في الأصل كذلك. وروي أنه لما ألقاها صارت ثعبانًا أشعَرَ فاغرًا فاه بين لَحْيَيهِ ثمانون ذراعًا وَضع لَحيَه الأسفلَ على الأرض والأعلى على سور القصرِ، ثم توجه نحو فرعون فهرب منه وأحدث فانهزم الناسُ مزدحمين فمات منهم خمسةٌ وعشرون ألفًا فصاح فرعونُ: يا موسى أنشُدك بالذي أرسلك خُذْه وأنا أؤمن بك وأرسلُ معك بني إسرائيلَ فأخذه فعاد عصا {وَنَزَعَ يَدَهُ} أي من جيبه أو من تحت إِبطِه {فَإِذَا هي بَيْضَاء للناظرين} أي بيضاءُ بياضًا نورانيًا خارجًا عن العادة يجتمع عليه النَّظارةُ تعجبًا من أمرها، وذلك ما يروى أنه أرى فرعونَ يدَه وقال: ما هذه؟ فقال: يدُك، ثم أدخلها جيبه وعليه مدرّعةُ صوفٍ ونزعها فإذا هي بيضاءُ بياضًا نورانيًا غلب شعاعُه شعاعَ الشمس وكان عليه السلام آدمَ شديدَ الأدَمةِ، وقيل: بيضاء للناظرين لا أنها كانت بيضاءَ في جِبِلّتها. اهـ.